آخرون يملؤهم الرصاص وأسرى يحتضرون
لثلاث سنوات مضت كان الأسير الفلسطيني ميسرة أبو حمدية يبث أوجاعه متنقلا بين السجون الإسرائيلية، وحين ينقل فاقدا للوعي إلى ما يعرف 'بعيادة سجن الرملة' كان أطباء السجن يهملون ألمه ويتهمونه 'بالوهم'.. إلى أن استشهد مؤخرا بعد أن نخر السرطان جسده.
وسلط استشهاد أبو حمدية في الثاني من أبريل/ نيسان الجاري الضوء على معاناة 16 أسيراً فلسطينيا يقيمون بشكل دائم في عيادة سجن الرملة و85 أسيراً يعانون من إعاقات مختلفة، و170 يحتاجون إلى عمليات جراحية ملحة، و25 أسيراً أصيبوا بمرض السرطان.
وتظهر شهادات لأسرى محررين، ورسائل من الأسرى المرضى المقيمين بعيادة سجن الرملة، إهمالا طبيا إسرائيليا متعمدا للمرضى منهم، ووصف هؤلاء عيادة الرملة بـ' مدافن الأحياء' تأثرا بالرواية التي نشرها الأسير وليد الهودلي قبل سنوات عن وضع الأسرى المرضى في سجون الاحتلال.
تشخيص خاطئ
ويروي الأسير المحرر علاء حسونة (34 عاما) من مدينة الخليل رحلة ست سنوات في 'مدفن الأحياء' بعيادة الرملة، اعتقاله عام 2005 وتدهور وضعه الصحي حيث شخّص أطباء إسرائيليون بمستشفى سوروكا في بئر السبع حالته بالإصابة بالسرطان 'في مراحله الأخيرة'.
وبعد عامين، كما يقول حسونة، تدهور وضعه الصحي وتعرض لجلطة في القلب اتضح بعدها أنه غير مصاب بالسرطان، وأدى إهمال علاجه إلى انغلاق الشريان التاجي مما اضطره لعملية قلب مفتوح أجريت له بعد ثلاث سنوات من الانتظار.
ويقول حسونة إن إهمال علاجه أصابه بانتفاخ الأقدام ومياه على الصدر وضعف كبير في عضلة القلب، وانهارت فعاليتها حيث باتت تعمل بطاقة 18-24% فقط مما استدعي تركيب منظم دائم. وعند الإفراج عنه العام الماضي رفضت مصلحة السجون تزويده بالتقارير الطبية عن حالته وتشخيصه الخاطئ.
ويضيف حسونة 'كنت بحالة نفسية وجسدية صعبة جدا، وخاصة عندما أبلغت عائلتي بإصابتي بالسرطان في مراحله الأخيرة.. وكنت أدخل في غيبوبة لأكثر من أسبوع'.
قلب مفتوح
ويذكر الأسير المحرر أنه في إحدى المرات نقل فاقدا للوعي من سجن الرملة إلى مستشفى سوروكا، وأجريت له عملية قلب مفتوح وهو مقيد اليدين والقدمين إلى السرير ويحيط به أربعة حراس.
يصمت حسونة وهو يتذكر تلك الأيام، ويقول'لا أستطيع ضبط مشاعري عند تذكر تلك المرحلة واستحضار مشاهد الأسرى الذين ما زالوا يصارعون الموت هناك'.
ويتذكر مثلا منصور موقدة المقعد على كرسي متحرك وقد أصيب يوم اعتقاله وينتظر لتجرى له عملية جراحية منذ 11 عاما ولا يأتي موعدها.. ومعتصم رداد الذي ماطل السجانون في علاجه حتى بات على شفا الموت بسرطان الأمعاء. ويضيف 'الأسرى في عيادة الرملة عبارة عن جثث تتحلل على الأسِرّة.. لا شيء فيهم سوى الروح'.
وبينما تحدث وسائل إعلام إسرائيلية قبل أيام عن الرعاية الصحية التي يحظى بها الأسرى الفلسطينيون خلال الاعتقال، يروي حسونة كيف خضع لفحص النخاع الشوكي الخطير مرتين بعام واحد، وأبلغه أطباء بعد الإفراج عنه إن أخذ عينة من هذا النوع فلا يمكن إجراؤها إلا مرة واحدة كل عام على الأقل. وكيف كانت إدارة السجن تمنع الأطباء من التساهل في علاج المرضى من الأسرى.
ويقول حسونة إنه وبعد فحوصات خطيرة كان ينقل كباقي الأسرى في 'البوسطة العسكرية' وهي رحلة معاناة بين السجون وكان يضطر أسرى آخرون لحمله ونقله من سيارة لأخرى.
ولا تحضر روايات 'مدفن الأحياء' بلا قصة الأسير رياض العمور الذي أصيب بشلل نصفي ومرض مزمن في القلب استدعى تركيب جهاز منظم، وسقطت أسنانه عدة مرات بسبب فقدان الوعي والسقوط أرضا، بعد سنوات كان يتهمه السجانون فيها بالمرض النفسي والتوهم أيضا.
ويستذكر المحرر الشاب ربيع حرب الذي أصيب بالرصاص وقت اعتقاله من رام الله قبل سنوات، إلى أحد المشافي الإسرائيلية، لكنه التقط فيها جرثومة سامة وأعيد إلى الحجر الصحي في عيادة الرملة ثم استشهد بعد أيام من الإفراج عنه.
وكذلك زهير لبادة الذي ظل ينتظر أسبوعين من أجل غسل الكلى حتى تسمم جسده كله، حيث رفضت عيادة الرملة غسل كليتيه بحجة أنه في عهدة 'المخابرات' وليس مصلحة السجون، واستشهد بعد أيام من الإفراج عنه أيضا. ومثله أشرف أبو ذريع الذي استشهد قبل أسابيع بعد الإفراج عنه.
شلل بعد التحقيق
أما المحرر عبد القادر مسالمة، فيروي قصة إصابته بالشلل بعد ليلة تحقيق عام 1989 ترك فيها مشبوحا في تيار هوائي بارد بلا ملابس كافية ولا حذاء، وعندما حضر السجانون لفكه صباحا سقط أرضا، وامتنعت مصلحة سجون الاحتلال عن علاجه حتى صار مقعدا في غضون عام.
وقضى مسالمة في الاعتقال بعد ذلك ست سنوات على كرسي متحرك قديم جدا حتى التهمت القروح جسده المصاب بضمور في العضلات أيضا.
وعاد مسالمة للأسر بتاريخ 21-11-2010 حيث حول للاعتقال الاداري بدون تهمة حتى الإفراج عنه بتاريخ 21-5-2012 بعد أن قضى عاما ونصف العام في عيادة سجن الرملة.
وقال إن كل ما كان يتناوله هناك عبارة عن حبتين من الفيتامينات يوميا فقط لا غير.. وهناك كان يتكئ على أسرى يستطيعون المشي لنقله إلى دورة المياه، أو الاستعانة برافعة لينزل عن سريره إلى كرسيه.
وفي إحدى المرات استطاع أحد الأسرى تهريب 'علبة معقم ' لمسالمة كي لا يضطر إلى الذهاب للحمام ليغسل يديه، فصودرت منه بحجة عدم الحصول على ترخيص من ضابط المخابرات المسؤول.
اعتقل مصابا بالرصاص
وفي شهادة حديثة، يروي المحرر قاسم عياد (29 عاما) من بلدة سيلة الحارثية قرب جنين، حادثة اعتقاله بعد محاولة اغتيال تعرض لها في جنين يوم 4 مارس/ آذار 2003 وبقي على إثرها في عيادة سجن الرملة حتى نهاية 2008.
يقول عياد إن قوة إسرائيلية اقتحمت مقهى للإنترنت وسط جنين وأصابته بعدة عيارات نارية أصيب في البطن وفي يده اليمنى وقدمه اليمنى، واعتقل حينها فاقدا للوعي.
بعد ذلك، اكتشف الشاب الذي لم يكن يتجاوز 19 عاما حينها إصابته بتهتك في الرئة اليمنى والحجاب الحاجز والأمعاء الدقيقة والغليظة والبروستاتا والمثاني والنخاع الشوكي، وأدى الإهمال الطبي إلى شلل في قدميه بسبب عدم إخضاعه للعلاج الطبيعي.
ويقول عياد إنه احتاج لعملية إغلاق أمعاء كان من المفترض أن تجرى لها بعد اعتقاله عام 2003 لكن خضع لها بعد أكثر من عامين نهاية 2005.
وعندما حاول قاسم استذكار مشاهد من أسرى عايشوا التجربة ذاتها وما زالوا في عيادة الرملة، قال 'منذ عام أحاول ردم ذاكرتي كي لا أستعيد تلك المشاهد.. في الحقيقة رأيت الموت، وكل مآسي الحياة هناك'.
لكنه تذكر اسم الأسير عبد الفتاح رداد الذي قاسمه الغرفة ذاتها لأكثر من عامين، وكان مصابا بالرصاص في قدميه، وذات مرة بعد مغادرته الغرفة لم يعد.. ثم جاء ضابط القسم وقال 'صاحبكم مات في ظروف غامضة'.
وعياد مثل كثيرين من الأسرى، كانوا يتوجسون من بعض العلاجات والأدوية التي يزودهم بها طبيب السجن، وخاصة بعد تقارير كثيرة تحدثت عن تحويل الأسرى إلى مختبرات تجارب.
يقول عياد 'كنت أرفض تلقي أية حبة دواء غير موثوقة رغم حاجتي لذلك، لأن كل ما يعطوننا مسكنات لتخدير الأسرى، حتى أن البعض يدخل في حالات هلوسة بسبب ثقل هذه المسكنات وجرعاتها العالية'.
وتحدث تقرير لوزارة شؤون الأسرى الفلسطينية عن 1200 أسير فلسطيني يعانون من أمراض مختلفة تعود أسبابها لظروف الاحتجاز الصعبة والمعاملة السيئة وسوء التغذية، وهؤلاء جميعا لا يتلقون الرعاية اللازمة. ومن بين الأسرى 85 أسيرا يعانون من إعاقات مختلفة جسدية ونفسية وحسية و24 يعانون من مرض السرطان، و16 مريضا يقيمون بشكل دائم في عيادة سجن الرملة.
ليست هناك تعليقات: